أﭘـولو



تشيمامندا أدتشي



أزور والديّ، مثل ولد بارّ، مرتين في الأسبوع في إنوغو؛ في شقتهما الصغيرة المكتظة بالأثاث، التي تصبح معتمة بعد الظهر. لقد غيرهما التقاعد وجعلهما منكمشين. كان كلاهما في أواخر الثمانينات ضئيل وله بشرة بلون الماهوغني وظهر منحنٍ. إنهما يبدوان متشابهني أكثر فأكثر، وكانما جعلت كل السنوات التي قضياها سويًا ملامحهما مختلطة وتسيل من واحد إلى الآخر. كانت تفوح منهما الرائحة نفسها أيضًا- رائحة المنتول- من العلبة الخضراء لدهان ـكس؛ الذي يمررانه لبعضهما ويضعان شيئًا منه بعناية على فتحات أنفيهما وعلى مفاصلهما المتألمة. كنت أراهما عند وصولي جالسين على الشرفة المطلة على الطريق، أو يغوصان في أريكة غرفة المعيشة وهما يشاهدان قناة أنِمل ـلانت. كانا يتمتعان بإحساس جديد بالدهشة، فيُدهشان من مكر الذئاب ويضحكان من ذكاء القرود ويسألان بعضهما "هل رأيت ذلك؟"
كما كان لهما جَلَد غامض على القصص التي لا تُصدق. فقد أخبرتني أمي مرة أن أحد الجيران المرضى في آبا، مسقط رأسنا، قد تقيأ جندبًا؛ حشرة حية تتلوى كانت دليلًا على تسميم أحد الأقارب اللئام له. "أرسل لنا أحدهم صورة للجندب في رسالة نصية"، قال أبي. كانا يصادقان على قصص بعضهما بعضًا، وحين أخبرني أبي بقصة العاملة المنزلية الشابة التي تعمل في منزل الزعيم أوكيكي قد ماتت بشكل غامض، وأنه أشيع في أنحاء البلدة أن الزعيم قتل المراهقة واستخدم كبدها في طقوس للحصول على المال، أضافت أمي "قالوا إنه استخدم قلبها أيضًا".
كان والداي سينكران هذه القصص قبل خمسة عشر عامًا. فقد كانت أمي، أستاذة العلوم السياسية، ستقول "هراء" بأسلوبها البارد. أما أبي، أستاذ التربية، فكان سيكتفي بالنخير، فلم تكن القصة جديرة ببذل مجهود للحديث عنها. وحيرني تخليهما عن ذواتهما القديمة، وصارا نيجيريين يرددان حكايا عن شفاء مرض السكري بشرب الماء المقدس.
لكني جاريتهما واستمعت لقصصهما نوعًا ما، فقد كانت هذه الطفولة الجديدة في شيخوختهما شكلًا من البراءة. لقد أصبحا أبطأ بمرور السنوات، وكان وجهاهما يضيئان لرؤيتي، ولم تعد أسئلتهما المتطفلة من قبيل "متى سنرى حفيدنا؟" أو "متى ستأتي بفتاة لنتعرف إليها؟" توترني كما في السابق. كنت في كل مرة أقود فيها سيارتي عائدًا، عصر الأحد بعد تناول وجبة كبيرة من الأرز واليخنة، إن كانت هذه هي المرة الأخيرة التي سأراهما فيها معًا على قيد الحياة، وإن كنت سأتلقى من أحدهما مكالمة هاتفية قبل زيارتي التالية يطلب مني المجيء حالًا. غمرتني هذه الفكرة بحنين حزين يظل حتى أصل إلى ـورت هاركورت. ومع ذلك كنت أعلم أنه لو كان لي عائلة ولو كنت أتذمر من ارتفاع رسوم المدرسة، كما يفعل أنباء أصدقائهما، فلن أزورهما بانتظام.
تحدث والداي أثناء زيارتي في نوـمبر عن ازدياد جرائم السطو المسلح في شرق البلاد، فقد أراد اللصوص أيضًا أن يجهزوا لعيد الميلاد. أخبرتني أمي أن مجموعة حراسة في أونيتشا قد ألقت القبض على بعض اللصوص، وضربتهم ومزقت ثيابهم، وألقت الإطارات القديمة على رؤوسهم مثل القلائد وسط صيحات تطلب الوقود وأعواد الثقاب، قبل أن تصل الشرطة وتطلق النار في الهواء لتفريق الحشود واقتادت اللصوص بعيدًا. صمتت أمي، وانتظرت سماع تفصيل خارق للعادة ينمّق القصة. قد يكون ذلك بأن تحول اللصوص إلى عقبان طارت حالما وصلوا إلى مخفر الشرطة. "هل تعرف؟"، تابعت، "أن أحد اللصوص، بل هو بالأحرى قائد المجموعة، هو رافائيل خادمنا قبل سنوات؟ لا أظنك تذكره".
نظرت إلى أمي "رافائيل؟"
"نهايته هكذا ليست بغريبة"، قال أبي، ""إذ لم ينشأ نشأة حسنة". غرق عقلي في الفاصل الضبابي لحكاية والديّ، وأخذت أصارع اليقظة الحادة للذكريات. قالت أمي ثانية "ربما لن تتذكره، فقد كان هناك الكثير من هؤلاء الخدم وأنت كنت صغيرًا".
لكني تذكرت، تذكرت رافائيل حقًا.

لم يتغير شيء حين أتى رافائيل للعيش معنا في البداية. لقد بدا مثل كل الآخرين، مراهق عادي الهيئة من قرية قريبة. طرد الخادم قبله، هايغنوس، لأنه شتم أمي. أما الخادم الذي سبق هايغنوس فلم يُطرد. لقد كسر صحنًا أثناء غسله الصحون، فحزم أمتعته وهرب قبل عودة أمي من العمل. لقد عاملني كل الخدم بعناية مزدرية لأناس يكرهون أمي. كانوا يقولون لي: تعال وتناول طعامك من فضلك، لا نريد متاعب مع السيدة. فقد كانت أمي تصرخ بهم دومًا لبطئهم وغبائهم وعدم سماعها وهي تدق الجرس، واضعة إبهامها على الزر الأحمر والرنين الحاد يجلجل في أرجاء البيت مثل الصراخ. ما صعوبة أن يتذكر أحدهم قلي البيض بشكل مختلف، سادة لأبي ومع البصل لها، أوإعادة الدمى الروسية إلى الرف نفسه بعد مسح الغبار، أو كيّ زيي المدرسي جيدًا؟
كنت الطفل الوحيد لوالديّ، ودخلت حياتهما متأخرًا. قالت لي أمي مرة "ظننت أنني دخلت سن اليأس حين حملت". لا بد أنني كنت في حوالي الثامنة من عمري، ولم أعرف ما معنى "سن اليأس". كان أسلوبها فظًا، وكذلك أبي، فقد كان لهما طبع في صرف الناس سريعًا. كانا قد التقيا في جامعة إبادان، وتزوجا رغمًا عن أسرتيهما- إذ رأتها أسرته مفرطة التعليم في حين أن أسرتها كانت تفضل خاطبًا أغنى- وقضيا حياتهما في تنافس شديد وحميم لمن ينشر أكثر، ومن يفوز بتنس الريشة، ومن يكون له الكلمة العليا في أي جدل. كانا كثيرًا ما يقرأان بصوت عالٍ لبعضهما بعضًا في الأمسيات، من الصحف والمجلات وهما يقفان أكثر مما يجلسان في الردهة، وأحيانًا وهما يمشيان وكأنهما سيعثران على فكرة جديدة. كانا يشربان ماتيوس روز- كانت هذه الزجاجة الداكنة توضع على طاولة قريبة منهما دومًا- ويخلّفان كأسيهما منهكتين برواسب محمرة. كنت اخشى في طفولتي من ألا أكون سريعًا كفاية لإجابتهما حين يتحدثان إلي.
وخشيت أيضًا من لامبالاتي بالكتب، فلم تكن القراءة تفعل بي مثلما تفعله بوالديّ، إذ كانت تبلبلهما أو تحولهما إلى كائنين تائهين في الزمن، لا ينتبهان تمامًا متى أجيء ومتى أغادر. قرأت الكتب بما يكفي لإرضائهما فحسب، وللإجابة عن الأسئلة المفاجئة التي قد تظهر أثناء تناول الطعام – ما رأيك بــيـ؟ هل فعل إزولو الصواب؟[1]- شعرت أحيانًا أنني دخيل في منزلنا. كان في غرفتي مكتبة مكتظة بالكتب الفائضة التي ليس لها مكان في غرفة المكتب والممر، وقد جعلا إقامتي تبدو مؤقتة، وكأنني كنت في مكان لا يتعين علي أن أكون فيه. شعرت بخيبة أمل والديّ في الطريقة التي ينظران فيها إلى بعضهما بعضًا حين أتحدث عن كتاب، وكنت أعرف أن ما قلته لم يكن خطأ لكنه كان عاديًا فحسب، ولم يوسم بعلامة أصالتهما. كان الذهاب إلى نادي الموظفين معهما بلاء؛ فقد كنت أرى تنس الريشة مملًا، وبدت لي كرة الريشة ناقصة كأن من ابتكر اللعبة قد توقف في منتصف الطريق.
"أوه، هذه هي مشكلتك؛ عشرون عامًا من كراهية اضطرارك لغسل الصحون".
كان الكونغ فو هو ما أحب، وقد شاهدت "دخول التنين" مرارًا حتى أنني بت أحفظ الحوارات، وتمنيت أن أستيقظ يومًا وقد صرت بورس لي. كنت أركل وأضرب في الهواء، أعداء خياليين قتلوا عائلتي المتخيلة. كنت اجر مرتبتي على الأرض وأقف على كتابين سميكين- يكونان نسخة بغلاف سميك من "الجمال الأسود" و"أطفال الماء"- وأثب على المرتبة صارخًا "هااااااا!" مثل بروس لي. ذات يوم وأثناء تمريني، رفعت نظري لأرى رافائيل يقف عن الباب مراقبًا إياي، فتوقعت توبيخًا ناعمً لأنه رتب فراشي هذا الصباح، وها قد عثت في الغرفة فسادًا. لكنه عوضًا عن ذلك ابتسم ولمس صدره ورفع أصبعه إلى لسانه، كأنه يتذوق دمه. كان ذلك مشهدي المفضل، فنظرت إلى رافائيل بإثارة صافية من السعادة المفاجئة "شاهدت الفيلم في المنزل الاخر الذي كنت أعمل فيه"، قال، "شاهد هذا".
دار قليلًا وقفز وركل، كانت ساقه عالية ومستقيمة وجسده كله مشدود وجميل. كنت في الثانية عشرة من عمري حينئذ، ولم يسبق لي أن شعرت أنني أدرك نفسي بشخص آخر.
تمرنّا أنا ورافائيل في الباحة الخلفية، فنقفز من بالوعة الصرف الخرسانية العالية ونهبط على العشب. أخبرني رافائيل أن أشفط معدتي، وأني أبقي ساقيّ مستقيمتين وأصابعي دقيقة، وعلمني كيف أتنفس. كانت محاولاتي السابقة في فضاء غرفتي جهيضة. أما الآن فقد أخذت أشعر، وانا أتمرن في الهواء الطلق مع رافائيل، وأقطع الهواء بذراعيّ، أن تمريني غدا حقيقيًا والعشب الطري تحتي والسماء العالية فوقي، والفضاء اللامنتهي لي لأهزمه. كان هذا يحدث حقًا، فقد أفوز بالحزام الأسود يومًا. خارج باب المطبخ كان ثمة شرفة عالية، ورغبت بالقفز من عتباتها الست وتجربة "الركلة الطائرة". "لا"، قال رافائيل، "الشرفة عالية جدًا".
كنا نشاهد أنا ورافائيل في نهاية الأسبوع، إن ذهب والداي إلى نادي الموظفين دوني، أفلام بروس لي، ورافائيل يقول لي "انظر لهذا! انظر لهذا!" لقد رأيت الأفلام بشكل جديد من خلال عينيه، بعض الحركات التي ظننتها معقدة صارت منيرة حين قال "انظر لهذا!". كان رافائيل يعرف ما المهم حقًا، وقد كانت حكمته تطفح على جلده. كان يعيد المقاطع التي استخدم فيها بروس لي عصا الننشاكو، ويراقب دون أن يرمش، لاهثًا لرؤية العنف النظيف للسلاح الخشبي المعدني.
"أتمنى لو كان عندي ننشاكو"، قلت.
"إنها صعبة الاستخدام"، قال رافائيل بحزم وشعرت بالندم لأنني رغبت بواحدة.
عدت من المدرسة يومًا، بعد ذلك بوقت قصير، فقال رافائيل "انظر"، وأخرج من الخزانة عصا ننشاكو- قطعتين خشبيتين اقتطعتا من عصا مكنسة وصقلتا بورق الصنفرة، وجمعتا بسلك حلزوني من النوابض المعدنية- لا بد أنه كان يصنعها منذ أسبوع على الأقل، في وقت فراغه بعد انتهائه من عمل المنزل. أراني كيف يستخدمها، وبدت حركاته خرقاء ولا تشبه أبدًا حركات بروس لي. أخذت العصا وحاولت أرجحتها، لكن انتهى بها الأمر بضربي على صدري، فضحك رافائيل "هل تظن أنك تستطيع البدء هكذا؟"، قال، "عليك التمرن لوقت طويل".
في المدرسة أخذت أفكر أثناء الحصص بنعومة الخشب في راحة يدي، وكانت حياتي الحقيقية تبدأ بعد المدرسة مع رافائيل. لم يلاحظ والداي تقاربنا أنا ورافائيل، وكل ما رأياه أنني كنت ألعب خارجًا، وأن رافائيل كان جزءًا من المشهد وهو يشذب الحديقة ويغسل الأصص عند خزان المياه. أنهى رافائيل نتف ريش الدجاجة مرة بعد الظهيرة، وقاطع تمريني المنفرد في الحديقة. "قتال!"، قال، فبدأت المبارزة، هو خاوي اليدين، وأنا أؤرجح سلاحي الجديد. دفعني بقوة، فضربته بأحد طرفي العصا، وقد فوجئ ثم أعجبه ذلك، وكأنه لم يرني أهلًا. أرجحت العصا مرة بعد مرة، فراوغ وتملص وركل. انتهى الوقت، وكان كلانا يلهث ويضحك في النهاية. وأذكر بوضوح شديد، حتى بعد كل هذا الوقت، صغر سرواله القصير بعد الظهيرة تلك وكيف بدت عضلاته مشدودة الأوتار مثل الحبال أسفل ساقيه.
كنت أتناول الغداء مع والديّ في نهاية الأسبوع، وأتناوله سريعًا حالمًا بالهرب وآملًا بألا يلتفتا نحوي بواحد من أسئلتهما المختبرة. قدم رافائيل، ذات مرة على الغداء، أقراصًا بيضاء من البطاطا الحلوة فوق الخضار، ثم مكعبات من الأزيمينة المفصصة (الـاواو) والأناناس.
"الخضار قاسية جدًا"، قالت أمي، "هل نحن ماعز آكل للعشب؟" نظرت إليه، "ما الذي دهى عينيك؟"
استغرق المر مني دقيقة لأدرك أن تلك لم تكن عبارتها الانتقادية المجازية المعتادة؛ فقد كانت تسأل"ما هو الشيء الكبير الذي يسد أنفك؟" إن لاحظت رائحة في المطبخ لم ينتبه لها. كان بياض عيني رافائيل أحمر، أحمر غير طبيعي بلون الألم، فغمغم قائلًا إن حشرة حطت عليهما.
"هذا يبدو مثل التهاب أـولو"، قال أبي.
دفعت أمي كرسيها للوراء وفحصت وجه رافائيل، "يا إلهي، ذلك صحيح. اذهب إلى غرفتك وابق هناك".
تردد رافائيل وكأنه يرغب في أن ينهي تنظيف الصحون.
 "اذهب!"، قال أبي، "قبل أن تنقل العدوى لنا جميعًا بهذا الشيء".
ابتعد رافائيل، الذي بدا حائرًا، عن الطاولة، ثم نادته أمي ثانية "هل أصبت بهذا من قبل؟"
"لا يا سيدتي".
"إنه التهاب في الملتحمة، ذلك الشيء الذي يغطي عينيك"، قالت. وبدت كلمة "الملتحمة" في وسط حديثها بالإيبو، حادة وخطرة. "سنشتري الدواء لك، استخدمه ثلاث مرات في اليوم وابق في غرفتك. ولا تطه الطعام حتى تشفى". ثم التفتت نحوي قائلة "احرص على ألا تقترب منه يا أوكينوا، فأـولو معدٍ للغاية". كان واضحًا من نبرتها الفاترة أنها لم تتخيل سببًا يجعلني أقترب من رافائيل.
ذهب والداي في وقت لاحق إلى الصيدلية في البلدة وجلبا علبة من قطرات العين، أخذها أبي إلى غرفة رافائيل في منزل الخدم خلف المنزل، بهيئة شخص يذهب مكرهًا إلى الحرب. ذهبت مع والديّ ذلك المساء إلى شارع أوبولو لشراء الأكارا من أجل العشاء، وبدا الأمر غريبًا حين عدنا ألا يفتح لنا رافائيل الباب أو ألا نجده يسدل ستائر غرفة المعيشة ويشعل المصابيح. وبدا منزلنا في المطبخ الهادئ خاوٍ من الحياة. ذهبت إلى منزل الخدم حالما انشغل والدي بأنفسهما وقرعت باب رافائيل. كان الباب مواربًا وكان رافائيل مستلقيًا على ظهره، وقد التصق سريره الضيق بالجدار، واستدار حين دخلت مندهشًا وحاول النهوض. لم يسبق لي دخول غرفته من قبل. وقد ألقى المصباح المكشوف المتدلي من السقف ظلالًا داكنة.
"ما الأمر؟"، سأل.
"لا شيء. جئت لأطمئن عليك".
رفع كتفيه وجلس في فراشه، "لست أدري من أين التقطت هذا. لا تقترب".
لكني اقتربت.
"أصبت بالتهاب أـولو في الصف الثالث الابتدائي"، قلت، "سيشفى سريعًا، فلا تقلق. هل استخدمت قطرة العين هذا المساء؟"
رفع كتفيه ولم يقل شيئًا. كانت زجاجة قطرة العين موضوعة على الطاولة ولم تفتح.
"ألم تستخدمها مطلقًا؟"، سألت.
"لا".
"لماذا؟"
تحاشى النظر إلي، "لا يمكنني فعل ذلك".
لم يكن رافائيل – الذي يستطيع إفراغ أحشاء ديك رومي ورفع كيس مليء من الأرز، أن يقطر دواء في عينيه. كنت متعجبًا في بادئ الأمر، ثم ضحكت وتقدمت. نظرت في أنحاء غرفته وصدمت لرؤية عريها؛ السرير الملتصق بالجدار، والطاولة الطويلة والصندوق الرمادي المعدني الذي افترضت أنه يحتوي كل ما يملكه.
"سأضع القطرات لك"، قلت وأخذت الزجاجة وفتحت غطاءها.
"لا تقترب"، قال ثانية.
كنت قريبًا وانحنيت عليه، وبدأ يرمش بشكل مسعور.
"تنفس كما في الكونغ فو"، قلت.
لمست وجهه وجذبت الجفن السفلي الأيسر برفق، وقطرت السائل في عينه. ثم جذبت الجفن الآخر بقوة أكثر، لأنه أغمض عينيه بإحكام.
"آسف"، قلت.
فتح عينيه ونظر إليّ، وأشرق وجهه بإعجاب. لم أر نفسي محط إعجاب أبدًا، وقد جعلني ذلك أفكر بحصة العلوم، ببرعم ذرة جديد ينمو مخضرًا نحو الضوء. لمس ذراعي، واستدرت لأغادر.
"سآتي قبل الذهاب إلى المدرسة"، قلت.
تسللت إلى غرفته صباحًا، وقطرت له عينيه، وتسللت خارجًا إلى سيارة أبي، ليوصلني إلى المدرسة.
"أعظم ما أملك قدرتي على قول ما ترغب بسماعه تمامًا".
بدت غرفة رافائيل في اليوم الثالث مألوفة لدي، محتفية وليست مكتظة بالمتاع. عرفت عنه، أثناء وضعي لقطرة العين، أمورًا حرستها بعناية؛ اللون الداكن المبكر فوق شفته العليا، بقعة القوباء في النقرة ما بين فكه وعنقه. كنت أجلس على حافة فراشه ونأخذ بالحديث عن "أفعى في ظل القرد"، فقد ناقشنا الفيلم مرارًا، وقلنا أمورًا قلناها قبلًا، لكنها بدت أسرارًا في هدوء غرفته. إذ كانت أصواتنا خفيضة وهامسة بعض الشيء، وقد ألقى دفء جسده على جسدي دفئًا.
نهض ليشرح لي طريقة الأفعى، وبعد ذلك وكلانا ضاحك، جذب يدي في يده، ثم تركها وابتعد عني قليلًا.
"لقد زال هذا الـ أولو"، قال.
كانت عيناه صافيتين، وتمنيت لو أنه لم يشفَ سريعًا.
حلمت بأن أكون مع رافائيل وبروس لي في حقل شاسع، نتمرن على القتال. حين استيقظت أبت عيناي أن تفتحا، ففرّقت جفنيّ. كانت عيناي تحرقاني وتحكاني. كلما رمشت كان يخرج منهما سائل فاتح اللون قبيح غطى أهدابي. بدا الأمر كأن ذرات رمل ساخنة كانت تقبع تحت جفنيّ، وخشيت أن يكون شيء ما داخلي يرشح، ولا يفترض به ذلك.
صرخت أمي برافائيل "لماذا جلبت هذا الشيء إلى منزلي؟ لماذا؟" وكأن إصابته بأـولو كانت تعني تعمده إيذاء ابنها. لم يرد رافائيل، ولم يكن يرد أبدًا حين كانت تصرخ به. كانت تقف على أعلى درجات السلم ورافائيل على أسفلها.
"كيف تمكن من نقل أـولو لك وهو في غرفته؟"، سألني أبي.
"ليس بسبب رافائيل. أظنني التقطت العدوى من أحد في صفي"، قلت لوالديّ.
"من؟"، كان علي أن أعرف أني أمي ستسأل. وفي تلك اللحظة مسح عقلي كل أسماء زملائي.
"من؟"، سألت ثانية.
"تشيدي أوبي"، قلت أخيرًا أول اسم خطر لي، "إنه يجلس أمامي وتفوح منه رائحة الثياب القديمة".
"هل تعاني صداعًا؟"، سألت أمي.
"أجل".
جلب لي أبي البنادول، وهاتفت أمي الطبيب إيبوكوي. كان والداي نشطين، يقفان قرب بابي ويراقباني وأنا أشرب كوبًا من كاكاو ميلو أعده لي أبي. كنت أشربه بسرعة، آملًا ألا يجذبا كرسيًا بذراعين إلى غرفتي، كما يفعلان في كل مرة أصاب فيها بالملاريا، حين أستيقظ شاعرًا بالمرارة في فمي، وأجد أحد أبويّ على مقربة مني يقرأ كتابًا بصمت، فأرغب أن أتعافى سريعًا لأتحرر منهما.
وصل الطبيب إيبوكوي وأضاء مصباحًا في عينيّ. كانت رائحة عطره قوية، ظللت أشمها حتى بعد مغادرته بوقت طويل، رائحة قوية شبيهة بالكحول ظننت أنها ستجعل الغثيان أسوأ. صنع والداي بعد رحيله مذبح المريض قرب فراشي، فقد وضعا على طاولة مغطاة بالقماش زجاجة من شراب لوكوزاد بنكهة البرتقال، وعلبة زرقاء من الشراب السكريّ، وبرتقالات طازجة مقشرة على صينية من البلاستيك. لم يجلبا الكرسي ذا الذراعين، لكن أحدهما مكث في المنزل خلال الأسبوع الذي أصبت به بأـولو، وكانا يتناوبان في وضع القطرات في عينيّ، وأبي يضعها بشكل أكثر خرقًا من أمي، تاركًا سائلًا دبقًا يسيل على وجهي. لم يعلما مدى مهارتي في وضع القطرات بنفسي. وكلما رفعا الزجاجة أمام وجهي، تذكرت هيئة عيني رافائيل في تلك الأمسية الأولى في غرفته، وشعرت بسعادة تغمرني.
أسدل والداي الستائر وأبقيا غرفتي معتمة. كنت سئمًا من الاستلقاء وأردت رؤية رافائيل، لكن أمي منعته من الاقتراب من غرفتي وكأنه سيجعل حالتي أسوأ بطريقة ما. تمنيت لو كان بمقدوره القدوم لرؤيتي، كان باستطاعته بلا شك التظاهر بتغيير ملاءة سرير، أو جلب دول للحمام. لمَ لم يأتِ؟ حتى إنه لم يعتذر لي. جهدت لأسمع صوته، لكن المطبخ كان بعيدًا، وكان صوته خفيضًا حين يتحدث إلى أمي.
حاولت مرة، بعد الذهاب إلى الحمام، أن أتسلل إلى المطبخ في الطابق السفلي، لكن أبي كان يتمشى أسفل السلم.
"ما الأمر؟"، سأل، "هل أنت بخير؟"
"أريد ماء"، قلت.
"سأجلبه لك، اذهب واستلقِ".
خرج والداي معًا أخيرًا. كنت نائمًا واستيقظت لأشعر بخواء المنزل. فهرعت نازلًا الدرج لأجد المطبخ خاليًا أيضًا. وتساءلت إن كان رافائيل في منزل الخدم؛ إذ لم يكن من المفترض به الذهاب إلى غرفته أثناء النهار، لكن ربما فعل بعد أن غادر والداي. خرجت إلى الشرفة وسمعت صوت رافائيل قبل أن أراه واقفًا قرب الخزان، حافرًا التراب بقدمه، مخاطبًا جوزفين، خادمة الأستاذ نوسوو. كان الأستاذ نوسوو يرسل البيض أحيانًا من مدجنته، ولا يسمح لوالديّ بدفع ثمنه أبدًا. هل جلبت جوزفين البيض؟ كانت طويلة وممتلئة، وكان لها هيئة من قال وداعًا لكنه يتلكأ. كان رافائيل امرءًا مختلفًا معها، بتهدل ظهره وقدمه المبلبلة، كان حييًا. كانت تتحدث إليه بشيء من السلطة اللعوب وكأنه كانت ترى من خلاله الأمور التي تمتعها، فتشوش عقلي.
"رافائيل"، ناديت.
التفت، "أوه، أوكينوا، هل سمح لك بالنزول؟"
تحدث وكأنني طفل، وكأننا لم نجلس معًا في غرفته المعتمة.
"أنا جائع! أين طعامي؟"، كان هذا أول ما تبادر إلى ذهني لكن صوتي بدا حادًا رغم محاولتي أن أبدو متأمرًا.
تغضن وجه جوزفين وكأنها كانت على وشك أن تطلق ضحكة بطئية طويلة. قال رافائيل شيئًا لم أستطع سماعه، لكنه بدا غادرًا. عاد والداي في تلك اللحظة بالذات، واضطرب رافائيل وجوزفين، التي أسرعت بالخروج من المكان، وجاء إليّ رافائيل. كان قميصه مبقعًا من الأمام، بقعة برتقالية مثل زيت النخيل من الحساء. لو لم يأتِ والداي لظل هناك يهمهم قرب الخزان، إذ لم يغير حضوري شيئًا.
"ما الذي ترغب بتناوله؟"، سأل.
"لم تأتِ لرؤيتي".
"تعلم أن السيدة قالت ألا أقترب منك".
لماذا يجعل الأمر عاديًا وبسيطًا؟ أنا أيضًا قيل لي ألا أقترب من غرفته، ومع ذلك ذهبت، ووضعت له قطرة العين كل يوم.
"لقد نقلت لي عدوى أـولو في النهاية"، قلت.
"آسف"، قالها برتابة إذ كان ذهنه في مكان آخر.
سمعت صوت أمي، وغضبت لعودتهما لأن وقتي مع رافائيل قد تقلص، وانتابني إحساس باتساع الصدع.
"هل ترغب بموز الجنة أو البطاطا الحلوة؟"، سأل رافائيل لا ليهدئني بل كأنما لم يحدث أمر جدي. كانت عيناي تحرقاني ثانية. صعد العتبات فابتعدت عنه بسرعة كبيرة إلى حافة الشرفة، وانزلق خفي المطاطي تحت قدمي، فسقطت لفقداني التوازن، وهبطت على يديّ وركبتيّ، مذهولًا بقوة وزني وشعرت بانهمار الدمع قبل أن أتمكن من كبحه. لم أستطع الحركة فقد تصلب جسدي من الإحساس بالمهانة.
جاء والداي.
"أوكينوا"، صاح أبي.
"وقعت على الأرض، وضرب حجر ركبتي. لقد دفعني رافائيل".
"ماذا؟"، قال والداي في الوقت نفسه باللغة الإنجليزية، "ماذا؟"
مر وقت قبل أن يلتفت أبي نحو رافائيل وقبل أن تقفز أمي وكأنها ستصفعه، وقبل أن تقول له أن يذهب لحزم أمتعته ويغادر فورًا، كان هناك وقت. كان بمقدوري أن أتحدث، كان بمقدوري أن أقطع هذا الصمت، وأن أقول إنه كان حادثًا، وأن أتراجع عن كذبتي وأترك والداي مصدومين فحسب.


[1]- ﭘـيـﭗ: الشخصية الرئيسة في رواية "آمال كبيرة" لتشارلز ديكنز، وإزولو بطل رواية "سهم الرب" لتيشنوا أشيبي.  
* اللوحة للفنان النيجيري ز. أو. أولرنتوبا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما علمني إياه الثعلب

وجه القمر؛ من جديد!

مزايا المرض المزمن