مزايا المرض المزمن



توم لي


أصبت في عشرينياتي بمرض مزمن، إلى جانب رغبة محمومة في أن أصبح كاتبًا دون أن أفعل شيئًا لتحقيقها. ويصعب علي الآن أن أفصل هاتين السمتين البارزتين عن حياتي حينئذ. لقد كنت منهكًا، إذ عانيت ألمًا دائمًا في الحلق، وصداعًا يدوم أيامًا، وتشوشًا في الذهن. وخضعت لفحوصات كثيرة لكل شيء. وذهبت للجميع؛ من أطباء ومختصين وأخصائيين في الطب التجانسي، وأخصائيي التغذية والتنويم المغناطيسي، ومعالجين بالريكي. وحين وجدت معالجتي بالإبر الصينية أنها لا تحرز تقدمًا، أحالتني إلى أستاذها الذي سألني عن الأعراض التي أشكوها أمام جمع من المتدربين، الذين ناقشوا حالتي وتتابعوا على جذب لساني خارجًا. وفي نهاية المطاف؛ قال استشاري إني مصاب بالتهاب الدماغ والنخاع المؤلم للعضل (أو متلازمة التعب المزمن). غير أن هذا لم يمنحني أملًا في العلاج، باستثناء عدد من جلسات العلاج السلوكي المعرفي. كنت أجهد في عملي عندما انتهى عقدي المؤقت، فغادرت لندن متجهًا إلى أمريكا الجنوبية لستة أشهر لم أشعر فيها بتحسن. انتابني قلق بعد عودتي حول مستقبلي، وارتبت في قدرتي على الاضطلاع بعمل أو مهنة أصعب. فأخذت دروسًا جامعية في الكتابة الإبداعية، وتمنيت أن تنقذني الكتابة، غير أنني لم أؤمن بذلك حقًا.

إن الكاتب العليل نمطٌ ومثَل راسخ في التاريخ الأدبي، غير أنه آسر على نحو غريب. فخذ مثلًا توماس دو كوينسي وألم الأعصاب ومشكلات الهضم ومشكلات النظر التي يهدئها كلها بالأفيون. وشارلوت برونتي ومعاناتها مع الصداع وآلام الجسد ووسواس المرض، وغي دو موپاسان وألفونس دوديه ومرض الزهري، وجيمس جويس ونظره الحسير، وفلانري أوكونور ومرض الذئبة الجلدي. ولعل الكاتب المسلول هو النمط الأكثر شهرة، فلديك جون كيتس وروبرت والسر، وكاثرين مانسفيلد وجورج أورويل وغيرهم الكثير. يصبح المرض في بعض الحالة، وبخاصة المرض العقلي، جزءًا من كون الكاتب أيقونة أدبية، ويستحيل فصل هذا عن أعماله، وخذ مثلًا سلڤيا پلاث وڤرجينيا وولف وروبرت لويل، وديڤد فوستر والاس. بل يبدو أن المرض أضاف في كثير من الحالات إلى أصالتهم بوصفهم كتابًا، بمعنى أنهم كانوا شديدي التأمل أو شديدي الحساسية أمام مطالب الحياة، فأضفت معاناتهم على أعمالهم عمقًا وتبصرًا لا تتهيأ لغيرهم من الأسوياء.

يعد مارسيل پروست المثال  في هذا الشأن. فقد عانى من ربو مزمن منذ الطفولة، وانسحب عام 1909 وهو يبلغ الثامنة والثلاثين من العمر إلى غرفة نومه في شقته الواقعة في جادة هوسمان، ليعمل بلا انقطاع على روايته البحث عن الزمن المفقود. وكان يستلقي في فراشه فيما يشبه العتمة والنوافذ مغلقة والستائر مسدلة بإحكام. ويكتب ليلًا وينام نهارًا ويقوم على خدمته خدم تعلموا نظامه وعاداته الصارمة بغية ألا يزعج صحته الهشة أي اضطراب. وتحول الربو الذي كاد أن يقتله عدد ا من المرات إلى حساسية عامة من العالم المادي. وكانت الروائع على وجه الخصوص تعد خطرًا مميتًا، فمنع الزوار من جلب الزهور ووضع العطور. وكانت مناديل القماش تستخدم لمسح أنفه مرة ثم ترمى، والأمر نفسه ينطبق على المناشف، فيمسح بها جلده مرة ثم يتعين استخدام أخرى جديدة. إذ قال لخادمته" ألا تعرفين يا عزيزتي سلستي أنني إن استخدمت المنشفة نفسها مرتين أصبحت رطبة فيتشقق جلدي؟!" وغطيت جدران غرفته بالفلين لحماية حواسه المضطربة من ضجيج الشارع.
لا يصعب إيجاد الرابط بين صحة پروست وعمله الإبداعي. وتُعرف رواية البحث عن الزمن المفقود بأنها رواية ذات حس عالٍ، ففيها صفحات كُرست لاستجلاء رائحة أو صوت. غير أن برايان ديلن في كتابه (الأمل الملتاع: تسع حيوات من وسواس المرض) يرى أن صحة پروست أدت دورًا حاسمًا في تيسير عمله الإبداعي.

كان الربو في ذلك الزمن يعد مرضًا عصبيًت، وفُتن پروست بكون هذا عنصرًا أساسيًا لشخصية الفنان. يقول الطبيب دوبولون في البحث عن الزمن المفقود "كل ما نراه عظيمًا وصل إلينا من مرضى الأعصاب، فهم وهم وحدهم من أسس الدين وأبدعوا الأعمال الفنية العظيمة". أدى إعياء پروست منذ طفولته فصاعدًا إلى أن يصبح مدللًا مغنجًا محميًا، وصارت هذه العادات حين كبر بنية يشرع بها رغبته في الانسحاب من العالم وتكريس نفسه لعمله فحسب.

عندما بدأت الكتابة وبدأ مرضي، خضعت أنا أيضًا لنوع من النظام الپروستي. فأخذت أنام في قيلولات طويلة ناعسة بعد الظهيرة وأذهب في نزهات نكدة حول المتنزه. وأستحم مساء بماء حار لتجديد الطاقة، وأتردد على مواعيد لا نهائية وأتبع علاجات في الطب التجانسي وأتناول المكملات الغذائية. وأتبع حميات للتخلي عن شيء أو آخر، فامتنعت عن شرب الكحول والكافيين تمامًا. كما أنني جربت اليوغا والپيلاتس وتقنيات ألكسندر. وفي أثناء هذا كله-وهو ليس بكثير- كتبت بجد، بإصرار كئيب أظهر إدراكي بأن معظم خيارات الحياة والعمل الأخرى قد سُدت في وجهي.

إن القول إنني اصطنعت مرضي بغية أن أصبح كاتبًا لهو ادعاء وانحياز للذات. لقد شعرت أن العكس هو الصحيح حينئذ، وأن مرضي عائق أمام الكاتب الذي قد أصيره. غير أنني أدركت متأخرًا أن بوسعي رؤية العون الذي تلقيته. فقد ترافقت متلازمة التعب المزن – مثل ربو   ﭘروست- مع التمارض الواهن، وهذا شائع لدى الطبقة الموسرة المثقفة المرفهة، التي بوسعها أن تمرض. وبعيدًا عن علم الأمراض أو الأمراض النفسية بمعناها الدقيق- وقد رفضت عندئذ أي جانب عقلي لها طبعًا- فإن تفاوت الأعراض والافتقار إلى الاختبارات التشخيصية المباشرة، أو العلاج الوحيد الفعال، فإن تناوب الفترات سيئها وجيدها، وطبيعتها المشكوك فيها، قد جعلها متكيفة لحيل المريض النفسية. يقتبس ديلن من كاتب سيرة   ﭘروست رولان هايمان قوله "يغدو تحديد الحد الفاصل بين الحتمي والمصطنع أمرًا صعبًا".

إن الكتاب – أو من يرغبون أن يصبحوا كتابًا- ميالون بالفطرة نحو "الدراما". إذ يبحثون عن أسباب للكتابة، ويسعون لقدر معقول من الاستحقاق وخلق الأسطورة. يقول وليم بوروز إن إحدى تجاربه بتقنية تقطيع الكلمات أظهرت أن من الضروري عنده أن يطلق النار على زوجته  جوان فولمر ويقتلها خطأ كي يصبح كاتبًا، وهذا تبرير ذاتي ارتجاعي لم يكن بذي جدوى لجوان. أشار العديد من الكتاب إلى أن موت أحد الوالدين قد قدح مسيرتهم. ولعل هذه الحكايات أقل أهمية من الدور المؤهل الذي تؤديه في أذهان الكتاب.  منحني مرضي أسطورة خلقي الخاصة وساعدني في أخذ نفسي على محمل الجد بوصفي كاتبًا. وأدركت بمرور الوقت أن كثيرًا من الكتاب الآخرين قد عانوا من صحتهم، وأن المرض وسام شرف. وكلما عثرت على أحدهم، التهمت التفاصيل وشعرت بالصدق والعزاء والجدوى.

كانت الكاتبة الفائزة بجائزة البوكر مرتين هيلاري مانتل معتلة الصحة في طفولتها- مثلما يقتضي النمط التقليدي للكاتب- وسماها طبيب العائلة "الآنسة الصغيرة نفروِل (أي التي لا تتعافى)"، واحتملت سنوات من أخطاء التشخيص والألم، قبل أن تشخص نفسها بالانتباذ البطاني الرحمي. "يحاول الناس إقناعي أحيانًا أن هذا جعلني كاتبة أفضل بصورة ما، أو أن هذا يعني أن بوسعي إبقاء العالم بعيدًا"، قالت نابذة الفكرة، لكنها قالت أيضًا "أكنت سأغدو كاتبة لولا صحتي العليلة؟ كلا على الأرجح".

أصبت بذات الرئة وتعفن الدم عام 2012 ودخلت في غيبوبة لأربعة أسابيع. قدم لي هذا فرصة أخرى. لم أتمكن من العمل لشهور عقب ذلك، ولم يعد لدي رغبة إلا بالتعافي، فبدأت كتابة روايتي "الكساح الرهيب لجيمس أور". تركز الرواية على رجل في مثل عمري يصاب ليلًا بنوبات ألم غامض تجعل حياته تتفكك شيئًا فشيئًا. نشرت مجموعة قصصية قبل سنوات، القصص التي كتبتها أثناء مرضي في عمري العشرين، ولكن الرواية أغرتني دومًا مع ضغوط كسب العيش وتأسيس عائلة. وتبين أن لدي الوقت والموضوع الآن.

ثمة خطر قوي من القناعة بهذه الأمور؛ من تحويل البؤس إلى أداة لقصة جميلة عن تحول المرء إلى كاتب، وعن ابتداع حماية مريحة أخرى. تقول مانتل صراحة "لا شيء في المرض المزمن يدعو لتزكيته". بدأ أحد أصدقائي، وهو روائي بارع، الكتابة منذ وقت قصير، ثم أصيب بمرض مزمن غير معروف أنهى مسيرته القصيرة المختلفة. وشخّص مرضه بعد سنوات عديدة، لكن العلاج محدود. يقول "إنها تجربة جيدة للكتابة، وتجعلك ترى العالم بصورة مختلفة. لكن الألم لا يبدو أبدًا ثمنًا مناسبًا لذلك". ويعتمد أيضًا على المقدار المناسب من المرض؛ أي أن يكون كافيًا لتيسير العمل، وليس كافيًا لإعاقته تمامًا. حين انفجر قلقي، قلقي الذي احتضنته منذ عشرينياتي، وتحول إلى انهيار في ثلاثينياتي، عجزت عن الكتابة لعامين. ولو قتلني تعفن الدم عام 2012، وقد كاد أن يفعل، لأسدى معروفًا لكتابتي.

ترفض مانتل أن يكون مرضها قوة إبداعية، ولكن ما كان لنا، لولا مرضها، أن نقرأ مذكراتها العبقرية "التخلي عن الشبح". بل ما كنا لنحظى بمانتل كاتبة على الإطلاق كما تقول هي. من العبث أن نحاول فصل الأمرين. يقول صديقي الروائي "لن ينتابني الحزن لو أن ذلك يعني ألا أكتب كلمة"، لكنه يقر "بأن المرء قد يفعل أي شيء للتخلص من المرض، لكنه بصورة ما يصبح مرتبطًا به، كأنه جزء منه، وتكتسي به هويتك قليلًا". سئلت هيلاري مانتل، عقب فوزها الأول بالبوكر عما ستفعل لو خيرت بين النجاح الأدبي والصحة الجيدة، فأجابت "أظنني سأختار الصحة الجيدة"، لكنه مع ذلك ليس أمرًا راجعًا لاختيارنا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما علمني إياه الثعلب

وجه القمر؛ من جديد!