كتب في الطائرة!



جانيت ونترسن









"نظرًا لما يعرفه عني من حب المطالعة..."[1] هذا ما يقوله روسـرو عن رحيله من ميلان مع ابنته ومكتبته فقط.
حولت كتب ﭘروسـﭘرو جزيرة منفاه القاحلة إلى مكان تحدث فيه الأمور دومًا، فالكتب نفسها تخلق الحياة. ولا شك أن هذا لكون الكتب هي الحياة والخصب والقوة، مضمنة في أشكال ملائمة يسهل نقلها.

لم يكن سفر  ﭘروسـﭘرو معتمدًا على سلطات الطيران، فقد كان السفر في تلك الأيام إما بالقوارب أو على الخيول، وهذا أفضل. إذ لم يشر أحد إلى عدم قدرة المرء على حمل الكتب في يده. وعلي الاعتراف لو أن شركات الطيران لم تهدئ هذا الخطر الجديد على سلامة عقولنا، لتخليت عن السفر جوًا للأبد.
إن الإهانات والإزعاجات التي يعرضنا لها أولئك الذين يزعمون أنهم يفعلون ما فيه صالحنا، لا يمكنهم أن يحسبوا منها مصادرة كتبنا. وإن كانت شركات الطيران ستجبرنا على التنقل وأدوات النظافة الشخصية مفتوحة، مثل نزلاء السجون، ودون أن نحمل الكثير على الطائرة سوى معجون الأسنان، فلتترك لنا كتابًا إذًا، حتى لو كانت من تلك التي تتوفر عند البوابة.  وسأكون سعيدة للغاية بوجود مكتبة على الطائرة ما دام فيها كتاب أكسفورد للشعر الإنجليزي، إلى جانب شفرة داـنشي.

يقال إن الكتب تجوف لوضع بعض الأجهزة داخلها، وتعارض السيدة ونترسن قراءة الكتب بحجة "أن معضلة قراءة كتاب تكمن في عدم معرفتك ما فيه إلا بعد فوات الأوان".
هذا صحيح! يعرف أي امرئ يقضي وقته في قراءة كتب حقيقية أنها خطرة ومن المحتمل أن تنفجر في وجهك، فالكتب الجيدة أدوات متفجرة، ولها القدرة على قدح شيء في ذهن القارئ، ذكرى أو كشف، أو فهم يتعذر بوسائل أخر. لم تبعد مدام بوﭭاري عن ربات المنازل الفرنسيات الحبيسات بلا سبب، ومن سينسى الرأي المشين في كتاب رادكلف هول "بئر العزلة": إنني لأؤثر أن أن أقدم فتى معافى أو فتاة معافاة قارورة من حمض البروسيك على هذا الكتاب".[2]

إن الطبيعة الانطوائية للقراءة جزء من قوتها، فما من أحد سواك أنت والكتاب في عزلة وخصوصية، ولا أحد يعرف فيم تفكر أثناء القراءة، وليس بوسع أحد رؤية التغييرات التي قد تطرأ تحت ظاهر استلقائك في صمت.
لقد ذكرت من قبل أن عدم القابلية للتبرير لسلطة خارجية هي ما يجعل من القراءة فعلًا جسورًا ونابعًا من الإرادة الحرة. فلا يمكن لكاميرات المراقبة وكاميرات الويب وأجهزة التنصت والمراقبة أن تفعل شيئًا حيال الحوار الخاص بين الكاتب والقارئ، وحين تمنع الكتب أو تبتر فإننا نركز على محتواها، فننسى المضمون الأخطر لما ترمز إليه القراءة، والسبب في كونها خطرًا.
لم تسمح أمي بوجود الكتب في بيتنا لأنها لا تريد لي قراءتها، هكذا ببساطة. لقد كان ذاك حافزًا على الأقل، لأننا نعرف أن ثمة أمرًا علينا محاربته حين تكدس الكتب وتحرق.

لقد تسبب عالمنا، عالم القوة الناعمة، حيث أقنع الناس أنهم يريدون نمط الحياة والكماليات والشهرة الرخيصة، وكل ما أراد لهم جمّاع المال أن يريدوه، تسبب للكتب بشيء أكثر تعقيدًا مما فعله حظرها.
فحرية الاختيار، كما تدعى، أغرقت السوق بالنفايات، فيصاب القارئ بالحيرة فلا يعرف ما هو جدير بوقته وما عكس ذلك، وتسوق الكتب على أنها متاع مستهلك قصير المدى. لم تعد المكتبات مكانًا للبحث، بل إن القراءة نفسها انحدرت من شيء مهم إلى شيء يمكنك فعله حين يتعطل جهاز الآيـود أو حين لا تجد ما يستحق المشاهدة على التلفاز.

لا يجدر بنا القول إن بعض الكتب أفضل من بعضها الآخر، أو إن قراءة تلك الكتب يمكن أن تحدث فرقًا في طريقة فهمنا لذواتنا، وذواتنا والعالم.
والواقع إن الكتب الحقة تعلمنا كيف نقرأ ما بين السطور، وهي مهارة يحتاجها الجميع هذه الأيام. ولعلك تظن أن أفضل الصحف بوسعها فعل ذلك لنا، غير أنني لا أؤمن بالسلبية على أية حال. إن التفكير من أجل نفسك ليس تمرينًا عقليًا فحسب، بل إنه قفزة خيالية، والكتب تصنع هذه القفزة.

       
  



[1]- "أمر بتزويدي بعدة كتب أفضّلها على إمارتي كلها"، هذه العبارة قالها ـروسـرو بطل مسرحية العاصفة لشكسبير، وهو يتحدث عن أخيه الذي نفاه في قارب مهلهل ليموت، لكنه نجا ولجأ إلى جزيرة مهجورة. (العاصفة/ الفصل الأول المشهد الثاني، ترجمة: أ.ر. مشاطي، دار نظير عبود، ص18)
[2]- صاحب الرأي هو ألدوس هكسلي، أما الكتاب فهو لمارغريت رادكلف هول، وهي رواية تتناول موضوع المثلية الجنسية بين امرأتين، صدرت عام 1928 وحظرتها المملكة المتحدة.  
- اللوحة: أمسية في المنزل، إدوارد جون وينتر، (1836-1919) 

تعليقات

  1. لأول مرة أقرأ كتاباتك شدني أسلوبك الرائع الماتع الذي يجمع بين الأدب والفن..
    شكرا جزيلا لك على الفائدة واللذة التي تضفيها كتاباتك على أرواحنا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما علمني إياه الثعلب

وجه القمر؛ من جديد!

مزايا المرض المزمن