دولة الرقيب
في كل مرة كنت أستعير فيها كتابًا من المكتبة المحلية في واشنطن، كان
يحييني ملصق أوريلي [نسبة لأورويل] يقول "الأخ الأكبر يراقبك!". وكثيرًا
ما تساءلت إن كان الآخرون يقفون لتأمل المعاني المتضمنة في هذه الكلمات، إن كانوا
يعلمون كم يشوّه المجتمعَ بقوة العيشُ تحت الرقابة، فهي تمسخ آراءك، وأخلاقك،
وعلاقاتك بأصدقائك وزملائك وتلاميذك، وبأي نادل وسائق سيارة أجرة تلتقيه، بل إنها
تمسخ علاقتك بنفسك.
احتفظت أثناء إقامتي في طهران في ثمانينيات القرن الماضي بمفكرة أكتب
فيها بلغة سرية غبية لم أعد أستطيع فك رموزها. ولأكتب عن أقاربي وأصدقائي الذين
اعتقلوا أو هربوا لئلا يعتقلوا، كنت أكتبهم في قالب روائي وأجعل من نفسي شخصية؛
امرأة متطبعة بطبائع الغرب، منسلخة عن تقاليدها، وترى كل شيء باللونين الأبيض
والأسود. أما أمي فقد ابتكرت رموزًا لتفادي الرقيب حين تتحدث على الهاتف، وقد كانت
معظم حواراتها لامنطقية. فكانت تقول بالفارسية مثلًا "الرجل مريض"
للإشارة إلى أن الأمور تمضي على نحو سيء فيما يتعلق بالنظام، ثم تهمس بتوتر
"هل تفهم؟ هل تفهم؟"
لقد اخترقت الرقابة عقولنا وقلوبنا باكرًا، إذ أضيف الحجاب على
رسومات كتب الأطفال مثل "أليس في بلاد العجائب"، و"صاحب الظل
الطويل"، و"الحسناء والوحش". وقد أخذت ابنة أحد الأصدقاء التي تبلغ
الثامنة من العمر تشعر بالخوف من الذهاب إلى الحمام وحدها، لأن معلمة التربية
الدينية أخبرتها أن كل خصلة من شعرها ستتحول إلى أفعى، إن اقتحمت عقلها أفكار الكفر.
كانت مشاهد الحب تقتطع على الدوام من
الروايات في صفوف الأدب في الجامعة، وتجتث كلمة "نبيذ" في قصص همنغواي،
وكان الرقيب يمتعض إن كان للأشرار في الروايات أو الأفلام لحى أو لهم أسماء دينية.
ظل مخرج مسرحي أعرفه يشتكي على الدوام من ضرورة أن يكون كل مشهد لزوج وزوجة في
غرفة النوم شجارًا، لأن اللطف كان محفوفًا بالمخاطر للغاية.
تبين لي حين كنت أكتب في إيران أن كلمات أو
مواقف بعينها ستثير غضب السلطات على الفور. وكان علي، للكتابة عن
الكتب التي أحبها، أن أتبنى منهجًا أكاديميًا للحديث عن الموضوعات التي تضج باللغة الحية
والمبهجة. (وكنت أكتب بالرمز مرة أخرى). أردت الكتابة عن نابوكوف، مثلًا، الذي
غافلت بعض رواياته السلطات، وعن التداخل بين الخيال والواقع. لكني سرعان ما أدركت
أن هذه مهمة مستحيلة، لا لأسباب سياسية فحسب، بل لأنني لم يكن بوسعي الحديث بصراحة
عن حياتي الخاصة، فلم أستطع ذكر نقش صديقي العاطفي على الصفحة البيضاء من كتاب "آدا"،
أو عما كانت تعنيه لي الرواية بوصفي شابة.
وتعلمت عوضًا عن ذلك أن أكتب نقدًا أدبيًا
خالصًا، وأن ألزم نفسي بالكتابة عن أدب الماضي. فقد كنت أكثر حرية هناك، إذ كان
بوسعي الحديث بصراحة وبنقد عن المجتمع، وكلما أسلمت نفسي للكتب الأقدم، رأيت كم
كان الأدب أساسيًا وثوريًا في التاريخ الإيراني. فلم أدرك قبلًا العمق الذي تجذر
به إحساسنا بهوياتنا في الشعر، ولا عجب أن الأميين يمكنهم قول أبيات من القصائد الفارسية الكلاسيكية.
وأدركت أن أهمية التغير الثقافي الجوهري في خلق إيران الحديثة بقدر أهمية الثورة
السياسية. وأخذت أقرأ لكتاب من القرن العاشر، بدءًا من الشاعر الملحمي الفردوسي
وحتى الشاعرات المعاصرات مثل فروغ فرخ زاد وسيمن بهبهاني.
إن الخوف هو السبب الحقيقي لرقابة الحكومة،
وهو في هذه الحالة خوف الدولة من مواطنيها. إذ ترغب الحكومات التي تتجسس على
شعوبها بالحصول على المعلومات، فلا تسيطر عندئذ على أعدائها فحسب، بل على الجميع،
مبقية إياهم بوضع المشتبه بهم. وما يبدأ بوصفه حركة سياسية سرعان ما يجتاح كل مظاهر الحياة،
بما فيها فضاءاتنا الخاصة. وما ينشأ خوفًا من عدو، يُخلق أحيانًا في الواقع، يتصل
سريعًا بالعادي والبسيط. ويصبح العدو زميلنا الغريب الأطوار، والجيران الجدد الذين
يتحدثون بلغات أجنبية، وأولئك الأشخاص الثلاثة الذين يتحدثون بهدوء إلى بعضهم
بعضًا في قطار الأنفاق. وسرعان ما تصبح كل حقيبة حاملة قنبلة، وكل سؤال متضمنًا شَرَكًا،
وكل الأماكن التي نشعر فيها بالراحة خطرة.
إنه يظل معك، ذلك الخوف، فهو يتسلل تحت
الجلد. حتى بعد أن تهرب وتكون على بعد آلاف الأميال أو على بعد عدة سنوات، ستظل
تشعر أحيانًا أنك مراقب. فقد دمرت شيئًا في داخلك تلك المعرفة الفظيعة بقدرة
الإنسان على القسوة وضعفك أنت في مواجهتها.
حين جئت إلى أمريكا عام 1997، كنت أنعم لوقت طويل بحالة من الغبطة، لأني أتمتع بالحرية لقول أي شيء لأي أحد. لكن الغبطة لا تدوم
طويلًا لا في العالم الحقيقي ولا في العالم الخيالي. فقد استولى علي الخوف الذي ظننت أنني
خلّفته ورائي حين هاجرت. لقد كانت الرقابة والعنف على المواطنين في إيران مكشوفة
وواضحة، لكنها هنا مخاتلة. نحن مهددون هنا باللامبالاة. وأخشى من سيطرة الجهل على
المواطنين غير المطلعين على تاريخهم أو تاريخ الآخر وحضارته. كيف يمكننا العثور
على إجابات للمآزق التي نواجهها، دون أن نعرف ما هي الأسئلة؟
عبر سول بيلو عن قلقه إزاء قدرة أولئك الذين
نجوا من محنة الهولوكوست على النجاة من محنة الحرية. لست أخشى من محنة الحرية، بل
أخشى اللحظة التي سنكف فيها عن النظر إلى الحرية بوصفها محنة.
تعليقات
إرسال تعليق